روائع مختارة | قطوف إيمانية | الرقائق (قوت القلوب) | التوقيع أفعى

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
روائع مختارة
الصفحة الرئيسية > روائع مختارة > قطوف إيمانية > الرقائق (قوت القلوب) > التوقيع أفعى


  التوقيع أفعى
     عدد مرات المشاهدة: 2374        عدد مرات الإرسال: 0

تمتد الأرض أمامه، يدقق النظر فيها، يبحث عن نهاية لها، عن جدارٍ من طين، أو بيتٍ من شعرٍ، أوشجيرات حول ماءٍ، يبحث عن أمل في الحياة، يسعى نحوه بما تبقى في جسده من جهد، فيرتد إليه بصره حسيراً كسيراً..

يرفع بصره من المكان الذي انتهى إليه، حيث التقت السماء بالأرض، يرتفع ببصره قليلاً.. قليلاً.. فلا يرى إلا زرقة السماء، والغيوم المتناثرة بين المشرق والمغرب، تحاكي غربته وتشتته بعيدأ عن وطنه الأم..

يتأمل الشمس التي فقدت بريقها وإصفرارها، وذهب شعاعها الذي يمنح الحياة، وحل اللون الأرجواني، ترحل في صمتٍ كئيب، فتبدو وكأنها غاضبةً عليه..

يتذكر بلدته الصغيرة خلف الحدود..

يتذكر أزقتها الضيقة، بيوتها ذات الجدران المتهالكة، جداول الماء المتسربة من تحت الأبواب،  تنبعث منها الروائح الكريهة، تأوي إليها الحشرات والجرذان، تناهى إلى سمعه أصوات الدراجات النارية، يتواصل ضجيجها في الليل والنهار، وأصوات، المجانين أو الهاربين من جحيم الحياة وبؤسها، إلى جنة الجنون، حيث لا يلومهم أحد حين يغنون بصوتٍ عال، أو يصرخون بالسباب والشتائم، أوحتى حين تظهر عوراتهم فلا يسترها لباسهم الممزق، أو حتى حين يقضون حاجاتهم في الطرقات..

يتذكر أباه، ودمعته التي إستقرت في عينيه لاتفارقهما، الآن عرف معنى تلك الدمعة، إنها دمعة الشفقة والعجز حين يجتمعان على قلب الأب..

إنه يراها في عينيه كلما نظر إلى زوجته وصغاره ، وهم يقاسون البؤس والشقاء، والفقر الذي حاصرهم، أجسامهم هزيلة، أمراضهم كثيرة، الفرح لا يعرف طريقه إليهم إلا دقائق معدودة، ثم يطرده الجوع والفقر..

يتذكر أمه، وسؤالها المتكرر عنه، خوفها، وقلقها، ليته إستجاب لقلب أمه، ليته لم يترك بلدته.. تذكر زوجته وصغاره، والليلة الأخيرة عندما تسلل من بين الظلام، يقبل صغاره، يتأمل في زوجته النائمة بين صغارها، البؤس والشقاء، هي اللغة المسيطرة على الوجوه والجدران في الغرفة.. تذكر دمعات سقطت على خده وهو يودعهم، ودمعات سقطت كلما تذكر فجيعتهم بأبيهم الذي رحل ولم يودعوه..

أغمد رأسه في الرمال، ثم صرخ صرخة قوية..

- يا ناس.. ياناس.. ياناس..

ارتد إليه الصوت..

دقق فيه، إنه صوته، لكنه عاد إليه مختلفاً، إنه يسمعه يقول:

- لا ناس.. لا ناس..

شهق شهقة، وردد مع صدى الصوت:

- لاناس.. لا ناس..

تأمل آثار الأفعى التي لدغته هذا الصباح.. خطٌ متعرج يبدأ تحت قدميه، وينتهي تحت شجيرة صحراوية ، تساقطت أوراقها، وبدت أشواكها، تنتظر الماء الساكن في أعماق الأرض، أو القادم من بحارٍ بعيدة..

زحف نحو الشجيرة، قرر أن ينتقم من تلك الأفعى، أن يقتلها أو تعجل هي برحيله بلدغة أخرى تنهي معاناته، لم يستطع أن يصل، خارت قواه، ألقى بجسده على الأرض، تناثرت ذرات الرمل تغطي جسده، تمنى أن تتكاثر ذرات الرمال، أن تدفنه.. -أيتها الأفعى- أخذ يخاطب نفسه:

- إنها تعيش في هذه الصحراء.. تملك سكناً تأوي إليه.. تكيفت مع جفافها، وحشتها، حرارتها، برودتها، لم تهاجر، لم تمت من الجوع.. رضيت بحياتها.. وجئت أنا إليها.. أطارد أمالي وأحلامي.. أحمل البؤس الذي خلفته ورائي.. ويسكن في وجداني.. جئت إليها.. في هذا المكان البعيد.. لتكتب النهاية.. إنها النهاية تكتب لمثلي.. والتوقيع.. أفعى..

الشمس تواصل الرحيل.. الغيوم تتباعد.. الظلام يتسلل.. واليأس يقترب أكثر وأكثر.. السم في جسده كالشمس في السماء، السم يجري في عروقه ليصل إلى قلبه وينهي حياته، والشمس تجري نحو المغرب لتعلن نهاية يوم.. بلدته.. أبوه.. أمه.. زوجته وصغاره.. كقطع الغيوم البعيدة.. والظلام كالموت يتسلل إلى صدره ليقبض روحه.. جرى الدمع على خديه.. تمنى لو أن الأفعى تعود.. سيمنحها صدره لتلدغه في قلبه، ليرحل سريعاً بلا عذاب.. السم الذي يسري في جسده لا يعذبه.. الموت القادم إليه ببطء لايعذبه.. أن يموت فلا شك بأنه سيموت وسيأتيه الموت في زمنه المحدد له.. العذاب الذي يسري في عروقه هو عذاب الغربة.. أن يموت في هذا المكان.. وحيداً.. فريداً.. في صحراء لا حياة فيها.. أين يكون قبره؟..هل سيكون في بطون الوحوش، أو الطير؟.. ياليتهم يأتون الآن..

أم سيبقى جثة هامدة تنبعث رائحتها الكريهة فيفرون منها.. وتتحلل في الأرض.. تأكلها الحشرات والجراثيم.. مسكين هو.. لا يعرف كيف يكون حاله بعد موته؟!..هذا عذاب.. وعذاب آخر.. كيف يصل الخبر إلى بلدته.. إلى أسرته؟.. لن يترحموا عليك.. إنهم ينتظرون عودتك بالمال والهدايا، بل سيغضبون إذا تأخرت، وربما كرهوك، أو ظنوا بك السوء، هكذا قال لنفسه.. أغمض عينيه، وقبل أن يلتقي الجفنان، فتحهما.. تلفت يمنة ويسرة.. غابت الشمس.. لكنه لازال يبصر ما حوله.. تحسس جسده.. العرق يتصبب بغزاره.. أنفاسه تتصاعد بصعوبة.. قدماه تقتربان من بعضهما.. برودة تسري في جسده..ضعفت يداه.. إرتختا بجانبه.. يارب.. يارب.. ارحمني يارب.. وغاب عن الحياة عندما غاب النهار..

* قصة من الواقع

الكاتب: عبدالله الهندي.

المصدر: موقع طريق التوبة.